مشروعية تذكير الصائم الناسي إذا أكل أو شرب

445 مشاهدة
27 ربيع الأول 1442 هـ
[[تذكير الصائم إذا أكل أو شرب ناسيًا]]

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا مزيدًا.

فصورة المسألة تنقسم إلى ثلاث صور:

الصورة الأولى:

من أراد أن يأكل أو يشرب، أو أكل وشرب، ونحن نعلم أنه ناسٍ.

اختلفت الناس في هذه المسألة على خمسة أقوال:

القول الأول: أنه يجب تذكيره.

وبنوا قولهم هذا على قاعدة (وجوب إنكار المنكر)، وهي قاعدة صحيحة بلا شك، وإنكار المنكر واجب، وقد وردت النصوص الكثيرة بوجوبه.
فتحرير المناط صحيح، لكن تحقيق المناط ليس صحيحًا! لأن أكل الناسي في رمضان ليس منكرًا ولا ذنبًا ولا معصية!

فاذا انتفى أن يكون ذنبًا ومعصية؛ انتفى أن يكون منكرًا ، فلا يصح حينها أن يقال: هذا من باب إنكار المنكر.

فإن قيل: نحن ننكر الصورة الظاهرة، وهي الأكل في رمضان، ومعلوم أن الأكل في رمضان منكر!

قلنا: المسألة مطروحة في شخص معين أمامك تعلم أنه ناسٍ، فليست المسألة صورة ذهنية حتى يُراد لها الحكم العام.

وذلك كمن قرأ القرآن وأخطأ في حرف أو آية، وأنت تعلم أنه مخطئ؛ فلا أحد يقول بوجوب تذكيره.
كالإمام إذا أخطأ في القراءة، فلم يقل أحد بوجوب ذلك، إلا ما كان من شأن الفاتحة، وهذا له منزع آخر يختلف عن مسألتنا.
فقالوا بوجوب ذلك في الفاتحة؛ لأنها ركن، والنقص فيها نقص مبطل للصلاة.

ومعلوم أن الصورة الظاهرة من النقص في القرآن وحذف بعض آياته منكر، لكن هذا من حيث الصورة المفترضة وبناء الأحكام عليها، وكلامنا ليس في الصور الظاهرة؛ وإنما هو متعلق بالأعيان.

فاتضح أن قاعدة (وجوب إنكار المنكر) لا تنطبق على مسألة الصائم الناسي.

نعم.. بعض أهل العلم ذكروا وجوب تذكير الناسي في بعض صور العبادات، لكنها ترجع إلى أمرين:

١- أن يكون النسيان مبطلًا للعبادة، كمن أراد أن يتوضأ بماء نجس، أو صلى وهو على غير طهارة.

٢-أن يكون فيه ضرر على المسلم.

القول الثاني: أن تذكير الصائم لا يشرع.

واستدلوا بدليلين:

١- قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه» .

والجواب على هذا أن يُقال:

لا دلالة فيه؛ لأن الحديث إنما يتكلم عمن أكل أو شرب، لا عمن أراد أن يأكل أو يشرب.

فأول الحديث «من أكل أو شرب» فهو زمن ماضٍ، وقع فيه الأكل والشرب وانتهى. فإذا حصل منه ذلك؛ فيصح أن تذكر له الحديث تطييبًا لنفسه.

ولذلك قال: «أطعمه الله وسقاه»، والذي لم يأكل بعدُ لم يطعمه الله ولم يسقه!

وكذا إن كان مستمرًا في أكله وشربه ؛ فإنَّ ما وقع في جوفه ينطبق عليه الحديث؛ لأنه يصح أن يُقال: «أكل أو شرب»، ويصح أن يقال في حقه: «أطعمه الله وسقاه»، وأما ما لم يدخل بعدُ في جوفه فلا يرد عليه الحديث، ولا يصح أن يقال في حقه: «أكل أو شرب»، ولا «أطعمه الله وسقاه» فيُشرع والحال هذه تذكيره.

٢- استدلوا بأثر ابن عمر -رضي الله عنهما- كما رواه ابن حزم في (المحلى) حين ذكَّره بعضهم بصيامه لما أراد أن يأكل فقال: «أراد الله أن يطعمني، فمنعتني!» .

والجواب على ذلك من وجوه:

أولًا: من حيث ثبوت أثر ابن عمر الذي ذكره ابن حزم من طريق وكيع عن شعبة، فهذا الأثر لا يصح، فقد حذف ابن حزم أول إسناده، فلا يمكن الحكم عليه.

ثانيًا: لعله كان من طريق أحد الضعفاء فحذفه ابن حزم ، خاصة وأنه غريب لا يُعرف قط إلا عند ابن حزم ، أو في الكتب المكذوبة كما في كتاب الربيع بن حبيب للإباضية .!
ولعل هذا السر في حذف ابن حزم لإسناده.!
والعادة أن ابن حزم ينسب ما يرويه إلى المخارج المعروفة كعبد الرزاق وابن أبي شيبة  وغيرهما ، فقوله هنا روينا عن وكيع، يتضح منه أن مستند ابن حزم ليس على أصحاب الكتب المشهورة .!

ثالثًا: ما تفرد به ابن حزم من الأقوال والروايات لا يُلتفت إليه ، حتى ما يُذكر من المتابعات أو التصريح بأسماء الرواة فينبغي التريث، وعدم الاعتماد عليه من أول نظرة، ففيه وهم كثير إذا كان هو المتفرد به.

وانظر إلى حديث «إذا بلغت الحائض»، فقد رواه ابن حزم بسنده عن (حماد بن زيد) عن (قتادة)، فذكره بعض أهل العلم متابعة (لحماد ابن سلمة)؛ لأن الحديث مشهور عن (حماد بن سلمة)، والحقيقة أن ما في (المحلى) مُصَحَّف، فقد نسبه بعض الرواة فقال: (حماد بن زيد). وإنما هو في الحقيقة (حماد بن سلمة)، وقد ثبت عن (حماد بن زيد) أنه قال: ذهبت لآخذ عن (قتادة)، فإذا هو قد مات.

فالحقيقة أن ما يتفرد به (ابن حزم) لا يُعتمد عليه، خاصة وأنه من الطبقات المتأخرة جدًّا.

رابعًا: ومما يدل على نكارته أن فيه لفظة (منكرة)، وهي قوله «أراد الله أن يطعمني، فمنعتني»، فإرادة الله نافذة ولا يمنعها شيء!
وفي هذا الموضوع “طرفة” يذكرها أهل السنة:

«روى عمر بن الهيثم قال: خرجنا في سفينة، وصحبنا فيها قدري ومجوسي، فقال القدري للمجوسي: أسْلِم.!
فقال المجوسي: حتى يريد الله.! قال القدري: إن الله يريد، ولكن الشيطان لا يريد ! قال المجوسي: أراد الله وأراد الشيطان، فكان ما أراد الشيطان ! هذا شيطان قوي ! !وفي رواية أنه قال: فأنا مع أقواهما» [شرح الطحاوية لابن أبي العز].

وهذه ثانية أيضًا يذكرها أهل السنة:

«وقف أعرابي على حلقة فيها عمرو بن عبيد، فقال: يا هؤلاء؛ إن ناقتي سرقت، فادعوا الله أن يردها علي. فقال عمرو بن عبيد: اللهم إنك لم ترد أن تُسرق ناقته فسرقت، فارددها عليه! فقال الأعرابي: لا حاجة لي في دعائك! قال: ولم؟ قال: أخاف كما أراد أن لا تسرق فسرقت؛ أن يريد ردها فلا ترد!!» .

خامسًا: معارضته (لآثار الصحابة) في تذكير الناسي لصيامه، كما سوف أذكره في القول بمشروعية التذكير.

القول الثالث: مشروعية تذكير الناسي لصيامه.

واستدلوا بأدلة:

أولًا: القاعدة الكلية المعروفة، وهي قول الله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى}.

ولا شك أن التعاون على تحقيق الصيام من البر والتقوى، وتحقيق الصيام إنما هو في الإمساك عن الطعام والشراب، فيكون التذكير  بالإمساك من التعاون على البر والتقوى.

فهذا على أقل الأحوال يدل على مشروعية التذكير.

إذن؛ فقاعدتنا التي ننطلق منها هي: (التعاون على البر والتقوى) ، وتذكير المسلم بما حصل في عبادته من خلل هو من التعاون على البر والتقوى، حتى لو كان ناسيًا.

وما زال الناس يعدون التذكير للناسي من محاسن الأمور.

وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في شأن الصلاة  من نابه شيء في صلاته: «فليسبح الرجال وليصفق النساء»، مع أنه ناسٍ، وليس عليه ذنب ولا إثم.

ثانيًا: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «فإذا نسيت فذكروني»، هذا وإن كان سببه في الصلاة؛ إلا أن باقي العبادات تُلحق بها، فـ (العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب).

فيكون المشروع هو تذكير الناسي إذا حصل منه خلل في عباداته بسبب النسيان أو الجهل.

والإمام إذا نسي آية أو حرفًا فإنهم يستحبون تذكيره.

وكذا الناسي ليمينه يُذَكَّر، وإن كان الناسي ليمينه ليس عليه شيء.

وقد ذَكَّر الصحابة النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لما أقسم أنه لا يحملهم ثم حملهم، فذكَّروه يمينه، فقال: «الله حملكم» رواه البخاري.

وكذا عائشة ذكَّرت النبي -صلى الله عليه وسلم- يمينه لما أقسم أن يعتزلهم شهرًا، فدخل عليهم بعد تسعة وعشرين يومًا، فقال: الشهر تسعة وعشرون» رواه البخاري.

وكل هذا تنتظمه القاعدة الكلية وهي: (التعاون على البر والتقوى).

ثالثًا: الذي ثبت هو مشروعية التذكير.

فقد جاء عن عبدالله بن شقيق أنه ذكَّر أبا ذر لما أكل وهو صائم قال “فحركته بيدي اذكره”. رواه البيهقي وسنده صحيح. وهذا إقرار من أبي ذر له.

وكذا ورد عن أنس، فقد ذكّر أبا طلحة لما كان يأكل البرد، فقال له: «ألست صائمً؟!». وهو أثر صحيح مشهور.

فهولاء ثلاثة من الصحابة وتابعي، وموافق للأصول والقواعد العامة والمقاصد الشرعية الصحيحة، وليس مع من منع دليل ولا أثر ولا قاعدة سليمة ولا مقصد شرعي!

رابعًا: لا يُعلم في الشرع مثال واحد في عدم تذكير المسلم إذا حصل منه خلل في عبادته، بل العكس صحيح كما مرّ معنا، إلا مسألة (تذكير العاطس بحمد الله).

والجواب عليها:

أولًا: هذه المسألة تختلف عن مسألتنا فليس هناك خلل حصل في عبادة؛ وإنما هو ترك لمستحب والفرق بين البابين واضح.

ثانيًا: جماهير أهل العلم على استحباب تذكيره، وفعله (النخعي وابن المبارك وأحمد) وغيرهم.
ولا يعرف عن أحد من المتقدمين أنه كرهه ، وإنما ظهر هذا القول عند المتأخرين.

ثالثًا: الذي ذهب إلى عدم تذكيره إنما ذهب إليه لورود نص خاص في المسألة، وهي أن رجلًا عطس عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يحمد الله، فلم يشمته النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم يذكره النبي -صلى الله عليه وسلم-.

رابعًا: هذا من باب التعزير، كما ذكره (ابن القيم) ، فهو خارج عن موضوع مسألتنا!

قال (ابن القيم) -رحمه الله-: «لم يشَمت الذي عطس ولم يحمد الله، ولم يذكره، وهذا تعزير له، وحرمان لبركة الدعاء، لما حرم نفسه بركه الحمد، فنسي الله تعالى، فصرف قلوب المؤمنين وألسنتهم عن تشميته والدعاء له، ولو كان تذكيره سنة؛ لكان النبي -صلى الله عليه وسلم- أولى بفعلها وتعليمها، والإعانة عليها والله أعلم».

فهذا القول حقيقة -القائل بعدم التذكير- ليس له ما يُسنده أو يدعمه، فهو يتيم في بابه، مما يدل على ضعفه وشذوذه!

القول الرابع: التفريق بين الجاهل والناسي فيلزم التذكير في الجاهل ولا يلزم في الناسي.
أي أنه يشرع التذكير للناسي لكن لا يجب ، وهذا يعود إلى القول الذي ترجح لدي . وهذا التفريق وجه عند الحنابلة .
واما مسألة الجاهل فليست هي مسألتنا.

القول الخامس: التفريق بين الشيخ الكبير الضعيف فيُشرع عدم تذكيره حتى يكون عونا له على إتمام صومه ، وأما الشاب القوي فيُشرع تذكيره وهو قول الحنفية ورجحه ابن دقيق العيد.
وهذا القول قوي أيضا لأن القواعد العامة والمقاصد الشرعية الصحية تؤيده وتوافقه ولا تخالفه.
لأن من قال أنه يُشرع تذكيره إنما قال ذلك من باب إتمام صومه والمحافظة عليه ، وهذا القول -القائل بعدم تذكير الشيخ الكبير- يتوافق تماما العلة التي ذكروها.
فهذان القولان في الحقيقة يعتبران قولا واحدا ، إلا أنه جُعِل قولا مستقلا من باب التفصيل.

الصورة الثانية:

من أكل أو شرب ونحن نعلم أنه متعمد، فالحكم في هذه الصورة واضح وهو وجوب الإنكار عليه.

الصورة الثالثة:

من فعل ذلك ولا نعلم هل هو ناسٍ أو متعمد، أيضًا يجب الإنكار عليه؛ لأن الأصل في الأفعال العمدية.

وخلاصة المسألة:

١- أنها تنقسم إلى ثلاث صور، صورتان يجب الإنكار فيهما، وهي إذا علمنا أنه متعمد، أو جهلنا ذلك، وصورة يُشرع التذكير فيها وهي إذا علمنا أنه ناسٍ وكان شابا قويا ، وصورة لا يشرع تذكيره وهي إذا كان شيخا كبيرا يُخاف عليه أن لا يتم صومه..

٢- القول بعدم مشروعية تذكير الصائم الناسي قول شاذ، ليس عليه منارة من علم ولا هدى، ولا يجري على أصول الشريعة الغراء.

والله أعلم.

تعليقات المستخدمين

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments